مصالحة مع المستقبل..افتتاحية صحيفة تشرين
- 2024-11-09
بات الجدل معلَناً حول خيارات إعادة هيكلة اقتصاد البلاد والترتيب الجديد لدور الدولة ومساحات حضورها المباشر في مختلف القطاعات، و تطبيقات الرؤية الجديدة لمفهوم “العقد الاجتماعي”.
فاليوم ثمة تداول جريء لأفكار هي بالفعل من “خارج الصندوق”..وما خارج الصندوق لا يعني بتاتاً أنه خارج المألوف، بل خارج القوالب القديمة التي تبدو أعرافاً أكثر مما هي ثوابت، وإن حوّلها التقادم إلى ثوابتَ ملتبسةٍ، بل ومشوّهة أمام متغيرات علينا أن نعترفَ بواقعيتها وإلحاحها.
وبما أنَّ الحكومة قد أعلنت عبر بيانها عن نيّات غير تقليدية في تناولها لمختلف الملفات الإستراتيجية المؤجّلة، فإنه من المفترض أن كلَّ ما يرشح عن جلسات مجلس الوزراء من مداولات سيكون غير صادم، أو على الأقل قابلاً للاستيعاب أمام المحاكمة الذهنيّة الرصينة، وإن كان إيقاعه أسرع من حدود المساحات التقليدية المستخدمة في تعاطي الشارع مع المسائل المتعلقة بالشأن العام والمعالجات الجارية في المقصورة التنفيذية، لذا قد يبدو الجديد مفاجئاً.. ومعرّضاً للالتقاط الخاطئ بشكل أو بآخر.
لكن الواقعية تقتضي الاعتراف بأنّ ما يجري على الملأ اليوم هو حركة تصويب وإصلاح، وإعادة هيكلة شاملة، هي بدهية ومطلوبة في أي بلد خاض سنواتٍ طوالاً في محنة عنوانُها “أزمة كبرى” تنطوي على سلسلة مفردات بإسقاطات قاسية.. حرب وحصار وتشتّت وضياع موارد.. وفساد أيضاً.. أي ما يجري هو جراحة موجعة بالفعل، لكنها ضرورية أمام جدلية “نكون أو لانكون “.
لكن لنعترف أيضاً- و بالواقعية ذاتها – أنّ التوطئة الهادئة، لمشروع دولة وحكومة، مطلوبة أكثر وبإلحاح في مثل هذه المناخات الجديدة الحافلة بـ”الجراحات الموعودة”، لأن من شأن الإجراءات المفاجئة أن تُظهر النتائج – مهما كانت جديرة بتوصيف “إنجازات”- على أنها خيارات باتجاه واحد، تمثل رأيَ وصوت الدولة – الرسمي لا الشعبي – ممثلة بالحكومة..
وعموماً التوطئة تعني التشاركية في القرار من وحي التشاركية في المكاسب والخسائر، أي ” تشاركية المصير” كمصطلح لم يعد بحاجة إلى تفسير لدينا نحن الذين خبرنا ماذا يعني بدقة وبعد تجربة مريرة.
التوطئة تعني إخراجَ كل ما في الجعبة من معطيات ووضعها على الطاولة.. أي على الملأ، وهذا ما يسمونه التسويق المسبق للإجراء، وطبعاً لا يقل أهمية عن الإجراء ذاته، مهما كان لازماً و ضرورياً وصحيحاً، لأن محاولة التسويق اللاحق تصبح ضرباً من التبرير والتسويغ، كمن يدفع عن نفسه تهمة بدلاً من تلقي الثناءات ..
إنه من بالغ الأهمية أن تتقنَ الحكومة التقديم الصحيح لوجهات نظرها الجديدة، وتضع حدوداً و روائزَ واضحة وملزمة في الحديث “التسويق” لكل وزير أو مدير، لتبقى الطروحات خاصّة ومدروسة داخل كل قطاع.. بما أنّ “لكلِّ مقامٍ مقال”.. وإلّا سنكون أمام فوضى، والفوضى هي أكثر المخاطر التي تعتري مراحل الإصلاح.. أي إصلاح.
وإن كانت الحكومة مقتنعة ومطمئنة على أنّ حراكها التصحيحي سيكون ذا صدى إيجابيٍّ، يبقى عليها أن تأخذ بحسبانها أنَّ ثمة “مقاومة تغيير” عنيدة ترتبط بمصالح ومكاسب و”مكتسبات”، وأن في المشهد عدداً غير قليل ممن ستتضرر مصالحهم من أي إجراء يكافح الفساد باتجاه الحفاظ على حقوق دولة ومواطن، وهؤلاء ربما سيضغطون بكل الاتجاهات للحفاظ على مصالح قديمة لهم.. والأدوات جاهزة كمفردات ساكنة في العقل الباطن.
فمن المهم إعلان خريطة طريق مديدة و واضحة، إن كانت ملامحها اُختصرت في البيان الأولي.. علينا ألّا نهملَ شرح التفاصيل، لأنها مُهِمَّة ومُهِمَّة ومُهِمَّة