افتتاحية صحيفة تشرين.. بقلم ناظم عيد - رئيس التحرير
جاذبةٌ سيرةُ التغييرِ و محفّزةٌ للحراك الذهني حتى العصفِ على مستويات وأنساقٍ مختلفة، تبدأ من النُّخبِ ولاتستثني مطلقاً أي مواطن.. وللمفردة إيقاعها المتباينُ بين التفاؤل والخوف، والتباينُ شخصيٌ بالطبع، إلا أن للتفاؤل حصَّتهُ الوافيةَ فالتغيير بطبيعته حالٌ إيجابيةٌ.
بالعموم منشغلون – نحن السوريين – كثيراً هذه الأيام بحكايا التغيير، لأن الموسم موسمُ استحقاقاتٍ، يستحوذُ على معظم امتداد أجندةِ العام ٢٠٢٤، تبدأ بالتغيير الذي نظنه بنيوياً مطلقاً في قيادة حزب البعث.. الحزبُ القائدُ وصاحب الأكثرية البرلمانية والتنفيذية، ثم انتخاب مجلس الشعب بعد أشهر قليلة، والذي ستعقبه بطبيعة الحال استقالةُ الحكومة وتالياً حكومة جديدة..
والواقع، هي استحقاقات مكثفةٌ تكفي لإشغال الجميع بترقب نتائجها والتعويل عليها، كما أنها بيئة خِصبةٌ لإيقاد حمى الطموح لدى الكثيرين، و إشعال سباقٍ محمومٍ في السرّ والعلن نحو المناصب، بكل مايرافق ذلك من شائعاتٍ وتسريباتٍ وتدافعٍ نحو “واجهات العرض”..
وهي حالة تقليدية نعرفها جميعاً في بلدنا، وإن كانت طبيعية وتجري في كل البلدان والمجتمعات التي تتبع نهجاً ديمقراطياً أو مايوازيه.. لكن دعونا نعترف ببعض المبالغات التي تعترينا دوماً في مثل هذه الطقوس، حيث تنتعشُ محاولات التّصيّد والتحييد، وتعويم بعض من يقتحمون مضمارَ السباق دون إمكانات حقيقية، ويتأبطون حقائبَ الأحلامِ فحسب، لا حقائب المهارات والمعارف والسّير الذاتية التي تشفع، بدءاً من المَلكات والخصائص الشخصية مروراً بالشهادات العلمية، وصولاً إلى الخبرات التراكمية والتجارب على الأرض، ولعل هذه الأخيرة هي الأهم على الإطلاق.
اليوم أمسينا أمام برزخٍ صعب، علينا تجاوزه للخروج من أزمتنا وتَبعاتها الصعبة وذيولها التي تجلدنا كسياطٍ لاسعة، حيث لم يَعدِ المنصبِ امتيازاً بل مسؤولية ثقيلة تتطلب وصول القادرين على حملها فعلاً، وبعضنا عايش وعاين حالات مثيرة للشفقة عن أشخاص امتلكوا مهارات الوصول انتخاباً أو تعييناً، لكنهم وقفوا مشدوهين أمام “شيفرة المسؤولية والاستحقاق” فانكفؤوا وغرقوا في دوامة غربة وصمت، وأغرقوا معهم قطاعاً أو مؤسسة أو طيفاً ديمغرافياً وجغرافياً واسعاً، وأربكوا إما حكومة أو سلطة نافذة أو ميداناً تنموياً حساساً.
السباق بات سباق “مشروعات” أو هكذا يفترض.. بل يجب أن يكون كذلك.. على طريقة “من لديه مشروع حقيقي ورؤيا واقعية للعمل فليتفضل”.
رؤيا مكتوبة وموثّقة تكون عبارة عن لائحة مهام يتعهد صاحبها بتنفيذها، يأخذ بحسبانه مختلف المنغصات والمعوقات التي قد تعتري عمله، ولا يُحضرها كذرائع مسبقة لتسويغ فشله القادم، “لائحة تعهد مهام” يُسأل عنها عندما توكل إليه رسمياً.
أغلب الظن أنه عندما تُدار “المكنة” وفق هذه التقنية والميكانيك الجديد، لن يدخل سباق المناصب والمسؤوليات إلا أصحاب الرؤى الفعلية والفعالة، ولن يكون المضمار مكتظّاً بمتأبطي الأحلام والمسكونين بنزعات الاستعراض و”انتحال التميز” والشغف بالامتياز.. هؤلاء سينسحبون سلفاً.. وهم من الفِطنة بما يضمن عدم المجازفة، ونفترض الفِطنة لأن بعضهم أثبت مهارات ورشاقةً عجيبةً حتى في المرور بين قطرات المطر دون أن يتبلل، لكنه يعمل بقول الشاعر “دعي الرماح لأهلها وتعطري”، أي يتركون الخبز للخباز، وكم هو مهمٌ و معبّرٌ واستراتيجيٌ هذا المثل الأخير الذي نحب كثيراً تداوله نحن السوريين.