يحيا عالمنا اليوم أزمتين، الأولى روحية والثانية سياسية، وهاتان هما المسؤولتان عن انهيار البنية الإيجابية لحركة تطور الإنسان على وجه الأرض( فكره، خلقه، حركته) من يتحدث عن قوة المنطق عليه أن يُعرّف المنطق،  ويحدد السبب أو الأسباب في جملها المنهارة، كان الإنسان شجاعاً لدرجة أنه كان يقاتل من أجل إنجاز فعل حضاري، ومن ثم يذهب بكامل قواه للدفاع عنه، آمن ذاك الإنسان أن البناء لا ينجح إذا ما أراد تحقيقه من الأعلى، وأيقن أن البناء السليم والبناء المتين يكون أقوى إذا ما تم بناؤه من الأسفل إلى الأعلى، هنا لا أطرح جديداً؛ إنما نتاج ما شهدناه في كثير من القضايا العلاجية التي يمرّ بها الإنسان، التي نجد أن علاجها يتم من الأعلى، أي أن أي بناء نريده دقيقاً يجب أن يتم بناؤه في الأعلى ومن ثم نقله إلى التأسيس، وأعتقد هنا أن الإله فعل كذلك، بعد أن صمم هذا الكون ومن ثم ذهب إلى تأسيسه، ومعه أجد أن التفكير بهكذا رؤى مهم جداً لأن العقل موجود في أعلى الجسد، فإذا خرب انهار كل البناء، أو ذهب إلى حالة من الضياع أو تحول إلى مدمّر ومخرّب.

القيم والأخلاق تسكن العقول لأنها تحيا في الأعلى؛ أي في قمة الجسد لا في أقدامه أو تحتها، والذين يتعجلون البناء أو يشرفون عليها نجدهم قد تجاوزوا الأسس، عن حسن أو سوء قصد، بغاية خلق فوضى في هذا البناء الإنساني، فالمشهد يدلنا على أكثر من ذلك، والمنطق يدعو إلى درس عميق لعموم الإنسان وسبر مدى حاجته إليها، كي تنفذ فيه وتسكن عقله وقلبه، وإذا ماطرحنا سؤالاً مفاده: كيف تنشأ فكرة الحرب في عقل الإنسان وهو الذي يطالب دائماً بالسلام؛ هذا الذي يجري مع دمائه؛ بل هو دماؤه، ويرفض الحرب بشكل قاطع لأنها  أداة تدمير وإرهاب وقتال حتى الموت، سياستها الأرض المحروقة، وكما هناك حروب للتدمير والإرهاب  هناك حروب الفكر وهي كثيرة، منها ما يقضي على الأخلاق والقيم، فهل نجد في أي حرب قيماً ومبادئ؟ أليست الحروب "جهنم" والبناء هو الجمال، أي الجنة، إنها مرحلة مليئة بالأخطار والصعوبات تحياها الإنسانية، تتطلب الكثير من حكمة الحكماء وخبرة الأوصياء على الفكر والعلم والسياسة، وإن ضرورة فصل السلطات الدينية عن السياسة والدولة ضرورة يدعو إليها فعل التطور، وهنا لا أدعو لفصل روح الأديان عن روح السياسة، أو الدين عن الدولة، بل أشجع على أن تكون السياسة مؤمنة بالعلم وبالحياة وبالإيمان الذي يتجسد فيه الأخلاق والقيم، والدين الذي يعتبر بنداً من بنود الأخلاق، لأن الأخلاق سابقة على الأديان، وهذا ما يجب أن تأخذ به السياسة، إن ما أتناوله الآن يتصل بأسباب الوجود الإنساني، فما الحاجة للبحث عن استعادته إن لم نرد تطوير هذا الوجود، أم أن علينا أن نشكك بأسباب وجوده والاكتفاء بمتابعة الأزمات التي تظهر فيها مراحل التهاوي والتساقط الذي يجب أن يتوقف بشكل أو بآخر، وما يحياه المجتمع اليوم من تآكل نتاج استغلاله لبعضه؛ أي يأكل بعضه البعض الآخر في الغش، إضافة  للتلاعب المنتشر في كل شيء فيه تحت مسميات متعددة منها مفهوم الحلال والحرام، والذي تحول من عام إلى شخصي، بينما غدت الاستفادة غير المشروعة مشرّعة بدون تشريع، واقع لم يعد خافياً على أحد، يدعونا لإيجاد الحلول .

سقوط القيم والأخلاق يعني حدوث هزيمة في المبادئ الأخلاقية والروحية؛ أي هزيمة الجوهر الإنساني، مما يسهل العبث فيه ومن ثم السيطرة عليه، وتعميم هذا الحال يجري الآن على هذا المخلوق "الإنسان" كيف بنا نُخرج من داخل هذا الإنسان فوضى الهزيمة ونعيده لنظم البناء وأسسه، أجزم بأن إدراكنا لفهم ثقافة النهوض تبدأ من الأعلى، أي من "تطوير العقل" وكيفية التعامل الخلاق مع الكبوات التي مازالت تعتبر من أهم معوقات نهوضنا، ولنا في التجربة اليابانية التي آمنت بأن المرور من ثقافة الهزيمة الخلاقة ضرورة حتمية لإعادة بناء أسس أخلاقية سليمة، فكان التعليم الأساسي لديهم يستند إلى تعليم الأخلاق والبروتوكول والأتيكيت أولاً، بعيداً عن أي تعاليم دينية، ورافق هذا تعاليم الإيمان العلمي وتخصصاته، فبعد أن هزمت اليابان ومعها ألمانيا المتحالفتان إبان الحرب العالمية الثانية، خلقت هذه الهزيمة في داخل كل منهما ذاك الإصرار على النهوض من عمق الهزيمة، صحيح أن الأمريكي ساعد في ذاك الحضور إلا أن الإنسان يبقى هو الأساس، فإنسانهم امتلك الإيمان بالنهوض، فنهضت الدولتان وأصبحتا من أقوى الدول علمياً واقتصادياً وعسكرياً، والسبب أنهما أعادتا بناء الأخلاق الوطنية والإنسانية من نقطة سقوطهما، حيث صعدتا بهذه إلى مصافّ الدول العظمى.

د. نبيل طعمة