على الأغلبِ، فسادُ وترهّل الكوادر ليسا مؤشراً على عدم جدوى منظومةٍ أو فشل نظامٍ ماليٍّ أو إداريٍّ.
هذه حقيقةٌ، لن يراها إلا مَنْ يجيدون التركيزَ في البعد الثالث للواقع والوقائع، وحسبُنا أن يكونَ لدينا الكثيرُ من هؤلاء، فهم فئةُ العقلاء أو حكماءُ التعاطي مع الشأن العام، و تقويم الظواهر الطارئة والمُقيمة، وما أكثر هذه الأخيرة في بلدٍ كبلدنا خارجٍ من حربٍ ضروسٍ، وينافحُ لتلبية استحقاقاتٍ صعبةٍ، معظمُها ملحٌّ.
بالفعل، نبدو اليومَ أمام زحامٍ من المطالب التي يندرجُ معظمُها تحت بند «استحقاقاتٍ عاجلة»، والوجهةُ التقليديّة هي السلطةُ التنفيذيّةُ؛ أي «الحكومةُ»، على الرغم من أنّ لدينا منظومةَ عملٍ واسعة طيف الانتشار، اسمُها «الإدارة المحلية»، وهي أحدثُ وأرقى طرازٍ من الإدارة غير المركزية، قوامُه المجالسُ المحليّة والوحدات الإدارية المنتخبة شعبيّاً، أي بممارسة ديمقراطيّة بكل معنى الكلمة، أنتجت ممثلي المواطن و«سفراءه» في أروقة إنفاذ ومتابعة القرارات التي تصدرُ لخدمته، وليس العكس.
لدى المجالس والوحدات المحليّة في بلدنا صلاحياتٌ واسعةٌ، وهي معزّزة بنظام ماليٍّ جديدٍ، يوافيها بعائداتٍ مُجزية، موارد ذاتيّة واستثمارات، وسلّة مصادر تمكّنها من لعب دورٍ كبيرٍ وعميقٍ على الأرض.
كما أن ممثّليها يحظونَ بأصوات مرجّحة في كلّ اللجان ومجموعات العمل المُنبثقة عن السلطة التنفيذيّة، وفي بعض المحافظات يستأثرُ بعضُ أعضاء المجالس بسطوةِ فرض القرارات التنظيميّة المتعلقة بقضايا حسّاسة تهمُّ المواطنَ، أبرزُها المحروقات والصحة والرقابة على الأسعار، وسلسلةٌ تطولُ.
هؤلاء دوماً في واجهة القرار، لكنَّهم يتلطّون خلفَ المديريّات التنفيذيّة والهياكل الحكوميّة المختصّة، عندما تبدأ «رشقاتُ» مطالب المواطن، وعلى الأغلب، هي مطالبُ محقّةٌ.
ولعلَّ العارفين بالخبايا في كلّ محافظةٍ، يدركون أنَّ معظمَ حالات الفساد فيما نسمِّيه إدارةَ النقص، أو الرقابةَ على الأسواق، والخدمات وكلّ القضايا اللصيقة بحياة المواطن، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأعضاء مجالس المحافظات، ثم المدن في المناطق وكذلك مجالسُ البلدات، وهؤلاء مُنتخبون بأصوات الشاكين ذاتهم من غبنٍ أو ظلمٍ يحوق بهم.. لكنَّ المدهشَ الذي يتكرّرُ يومياً، هو أن تتوجّه سهامُ الانتقاد والاتهام نحو الدولة والحكومة بمؤسّساتها ، وتستثني المُتهَمين الحقيقييّن في مجالس المحافظات والمدن!!
نظامُ الإدارة المحليّة يعني إدارةَ المواطن شؤونَه، لكنْ على نحوٍ منظّم ومُمأسسٍ وفق الارتسامات التي بين أيدينا اليومَ، وتتجدُّد كلّ أربع سنوات، بأصوات المواطنين وبإراداتهم وخياراتهم، فلمَ لا تعلو أصواتُنا في الإشارة إلى فسادِ أو تقصيرِ مَنْ انتخبناهم، ووثِقنا بهم؟
المواطنُ هو وحدَه القادرُ على تحويل فرصةِ وصول مَنْ يمثّله إلى المجالس المحليّة، ممّا يُشبه « رحلةَ امتيازٍ وجني أموالٍ عُمرها ٤ سنوات» إلى حقبة مسؤوليّةٍ وعملٍ حقيقيٍّ فعّالٍ، لأن قانونَ الإدارة المحليّة يتيحُ «حجبَ الثقة»؛ أي إعفاء مَنْ يثبتُ فسادُهم وتقصيرُهم من رؤساء وأعضاء المجالس المحليّة، ومهمّةُ المراقبة والتقييم تقع على عاتق المواطن قبل أيّ سلطةٍ أخرى.
لسنا في وارد إعداد صكوك براءة ولا اتهامٍ، بل ثمةَ أدوارٌ تبدو استراتيجيّةً اليوم، ولابدَّ من أن نضطلعَ بها جميعاً، الدولةُ بمؤسساتها، والحكومةُ بأذرعها التنفيذيّة، والأهمُّ المجالسُ المحليّة؛ لأنها صوتُ المواطن وصورةُ الحكومة، وكم هو خطِرٌ أن يكونَ الصوتُ «نشازاً» والصورة مهزوزة ومشوَّهة.
 
افتتاحية صحيفة تشرين... بقلم ناظم عيد رئيس التحرير