أخذت تنمو وتزدهر وتنتشر بتسارع عنيف يجب لجمه وبذات السرعة، لأنها تحولت إلى عالم مواز يضاهي عالم الحقيقة، بل أكثر من ذلك أخذ يسيطر عليه، لأن سرعته الترويجية أصبحت هائلة ومذهلة في ترويج التهم واغتيال الشخصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وضمن أي مهنة وعلى كل المستويات ودون أي استثناء، ما يجب أن ننتبه له ومنه، أصبح أمراً مذهلاً وخطيراً لأنه تجاوز كل المبادئ والقيم والأخلاق والأعراف، وبعد تدحرجه وتغلغله إلى العقول والأفكار أصبح من الصعب التحقق مما بثه وبحاجة إلى بحث وتحر بعد أن يكون فعل فعلته، اسمحوا لي بأن أستشهد بالروائي الإيطالي "أومبيرتو إكو" فهو إضافة لشهرته مفكر من طراز رفيع، كان قد أدلى بحديث عشية رحيله عام "2016" لصحيفة "لاستاميا" الإيطالية قال فيه: "إن هذه الوسائط تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى" ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من الخمر من دون أن يتسببوا بأي ضرر للآخرين، وهم الآن يتمتعون بحق التحدث للعموم مثل من يحمل جائزة نوبل.
هاهم اليوم يهاجمون بلا هوادة، حتى أنهم لا يميزون بين الخير والشر ودون تفكير بالأضرار أو النتائج، لقد امتلكوا تفكيراً مزدوجاً هيمنوا به على الفضاء الكلي للبشرية، وكل هذا بهدف الإثراء السريع أو الإضرار بالآخرين لتحقيق أهداف خبيثة تُجنى من خلف هذه الوسائط، هل هدف "إلون ماسك" مالك تويتر (X) و "زوكربيرغ" مالك فيسبوك وتنافسهما في تعزيز أدوار السوشيال ميديا ونشر منصاتها في دول العالم، وبشكل خاص بين الناشئة من الفئات العمرية الصغيرة حتى المتوسطة، لاستخدمها واعتبارها مساحات للتسلية وحرية للرأي والتعبير فقط؟ علماً أن بعضاً من أجيال الكهولة تأخذ بها بعقلانية وتعتبر أن دورها مهم في توجيه الرأي العام، وأن تأثيرها غدا أسرع بكثير من دور الإعلام المرئي أو المسموع والمطبوع، والأهداف اليوم أصبحت أكثر من واضحة بعد هيمنتها على الوسائط التقليدية، دققوا فيما أخط، لقد نجحت هذه الوسائط في خلق تفكير مزدوج عند الناس مما أدى إلى حدوث تنافر أخلاقي وروحي ومعرفي؛ أي عملت على إحداث الشك لمصلحة التناقض، وأخذت تؤثر بشكل مباشر على العملية الإدراكية للأجيال التي تعلقت ـ لدرجة الجنون ـ بهذه الوسائط على حساب الإعلام المهني الوطني، الذي غدا من أكبر ضحايا هذه الوسائط، والذي أصبح تراجعه أو حتى غيابه أو تغييبه يشكل عاملاً هاماً في تقدم تلك الوسائط وفي تصعيد الخطيئة والنفاق وعدم التسامح، وها نحن نرى الحملات المؤيدة والمعارضة وكيفية الاتهامات والدفاع عنها ـ دينية كانت أم سياسية ـ وآليات الاستثمار فيها والابتزاز من خلال نشر فضائح سياسية واقتصادية ودينية ـ فردية أم جماعية ـ انتصاراً لهذا أو تدميراً لذاك، مما يطور لغة الكراهية والازدراء لدى شعوب العالم الثالث أو من يعادي النهج الغربي، مبدع هذه التقنيات، أرجو أن ندقق في حجم الخراب الفكري والاجتماعي الذي سببه الاستخدام السيّىء لهذه الوسائط، التي إن سلطت على فرد أو مجتمع او دولة هدمتهم بامتياز نتاج سرعة ترويج التهم وهدم صور الأفراد والشخصيات وهتك صيغ الأسر، من خلال نشر الفضائح والصور والأحاديث المختلسة بطرق شتى من قبل هذه الوسائط، أو من خلال الأنظمة الأمنية التي تريد إسقاط فرد أو سلطة ما.
ماذا تفعل البراءة من تهمة بعد انتشارها؟ وماهي السبل للملمتها؟ وهل هذا ممكن؟ وإني لأستند للملك النعمان بن المنذر ـ من مشاهير العرب في التاريخ ـ عندما قال: " قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيل" ولهذا البيت قصة تتشابه مع لغة السوشيال ميديا.
يجب ألا ننكر اليوم غياب الإعلام المؤسسي أو تراجعه إلى درجة كبيرة، وهذا هو الهدف الحقيقي للسوشيال ميديا، ورويداً رويداً سيتحول كل الإعلام ليصبح من خلال هذه الوسائط التي غدت محمولة في اليد وتحت وأمام خط البصر ومحيط السمع، متسيداً الساحات الإعلامية ودورها الكبير في عمليات إثارة الفتن العقائدية والمناطقية والدينية، ونشر خطابات الكراهية وتبادلها بين الفرقاء عبر الأخبار الملفقة والمضللة التي تربك الخطط والمناهج وتدمر المجتمعات الشعبوية، حتى وإن كانت واعية وما أكثرها.
صحيح أن سواد دول العالم أخذت تسن القوانين التجريمية لكل استخدام خاطئ لهذه الوسائط، وأنها فرضت عقوبات مالية وجزائية على كل مرتكب بحق الآخر أو المجتمع أو الدولة، إلا أن تنافر نظم الحكم العالمية تجعل من سطوتها قوة تستخدم ضد بعضها وضد الإنسانية لصالح غايات اقتصادية واجتماعية وسياسية، والآن وبعد أن اكتشف الجميع سطوة هذه الوسائط وخطورتها، أقترح بناء منظومات وطنية تتسم بالمرونة والسرعة مع إرادة حقيقية لتطوير الإعلام الوطني الإلكتروني يكون الهدف الأول والأخير منه مواجهة الخطر من هذه الوسائط بوسائط علمية وفكرية واعية ومدركة لما يراد ولما نريد.
د. نبيل طعمة