يمر الوقت، تتقلص الدهشة، نفتقد حضورنا رويداً رويداً، يستلب الانتظار قيمة حركتنا لتصبح كل الأشياء اعتياداً بالنسبة لكل شيء، معرفاً أم غير معرف، هذه التي تحدث معنا ترافقنا على خط بصرنا ومحيط سمعنا، نتلمس أحاسيسنا، نتفقدها، نجدها تبخرت إلى حد كبير، ومعها انتهت الدهشة ولم يعد للصدمة أي وهج ولا للألم أصوات الأنين، نسأل أنفسنا هل اقتنعنا بالأسوأ أم اعتدنا على حدوثه، لذلك لم نعد نتفاجأ بأي بارقة أو نتعلق بالأمل.
تعال معي كي نشهد من الواقع على مجرياته، ولنسأل عن الكيفية التي نفكر بها كإنسان كي نتجاوز بعضاً مما نحن فيه، لأن غاية أي تفكير هي الخروج من القاع أو من الأدنى أو من عنق الزجاجة إلى الرحابة، إلى حرية الحركة؛ أي إلى الخلاص من أي ضيق، إلى العمل من أجل استمرارنا بالحياة، وهذا محور فكري تسعى إليه الشعوب للخروج من مأزقها بتحليل أفكارها، إلا إذا تحول عنق الزجاجة إلى أنبوب لا نهاية له، طبعاً لم يشهد التاريخ صناعة نعش لشخصين في آن، وإذا حدث ستكون الدهشة الكبرى التي تولد الأسئلة، هل يقدر أي كائن أن يختار طريقة نهايته؟ أقول ممكن إذا وصل قمة الضيق وتوفرت لديه قوة الشجاعة القائلة: أريد نهاية بلا أي ألم، بلا أي حساب، هل هذا ممكن؟ إذاً تعال نتفكر في ذلك ولا تأتي دائماً.
الإنسان القديم صنع المستحيل الذي لا يمكن لنا في زماننا الحالي إلا أن نقول عما قدمه: مستحيل أن نغير ما صنع، والسبب أنه سيطر بشكل مطلق، بعد أن أسكن الخلاف والاختلاف ضمن الفكر، لأن فكره كان تفكيراً خلاقاً قدم للإنسانية ما لم نستطع تقديمه.
أنت هنا وأنا هنا، لنبدأ في التفكير، لن أتركك وشأنك عليك فعل ذلك وعلي تطبيقه أيضاً، لنقم بتحليل الواقع وننطلق منه لاستشراف القادم بواقعية، ولنخرج من مفهوم الدبلوماسية التي أعرّفها بأنها "أجمل لغة لأسوأ نوايا" من هو المسؤول عن التفكير العام؟ وهل هو تفكير خاص وبإرادة ما يتم تحويله إلى عام، كم فكراً لدينا؟ فكر ديني، فكر سياسي، فكر اقتصادي، فكر اجتماعي، فكر مؤمن يفكر في الإيمان الشخصي، وفكر مؤمن بتضاد الفكر؛ أي أن نقيض الإيمان إيمان أيضاً، ومن يفكر ليكتشف سيجد أن الآخر أيضاً يفكر ليكتشفه أولاً ثم يذهب للتفكير فيه، على هذا وجدت نفسي أفكر بالتفكير معك، هل حاول أحدكم القيام بهذه التجربة؟ إن أهم معجزة أنجزها الكون تكمن في وجود التفكير الذي أنجز الصراع البشري كي يتفوق على الإنساني ويهزمه بامتياز، هل ينهزم التفكير إذا كانت نتائجه كارثية؟ أم أنه يهزمنا بعد أن يدمر فينا كل ما بنيناه وكأنه يدعونا لنبدأ من جديد.
هنا أتوقف لأجدول نظم التفكير بغاية الخروج من عنق الزجاجة، أبدأ بملذات الجسد واحتياجاته وأقر بأن جميعها ضرورة (الغذاء والشراب والهواء والجنس والقوة والمال) لأن بدونها لا يستطيع الفكر إعطاء الأوامر ليتحرك الجسد، وهي في الوقت نفسه جزء من المتع الفكرية، إذاً كل ما ينتجه الفكر هو من أجل رفاهية الجسد الذي يحتاج للغرائز أولاً، هذه التي لا تنتهي طالما أنه لم يخرج من إرادة طلب كل شيء، هل هذا صحيح؟ وأن كل الأفكار الجيدة المفيدة والذكية تأتي دفعة واحدة بعد اتخاذ القرار، فلا تجد لها مكاناً للتنفيذ إذا لم تتوافر لها القدرات العلمية والعملية المسكونة في إرادة الخروج من الظلمة أو من عنق الزجاجة.
أفكر بالتفكير بغاية تنظيم الفكر وجدولته، أستمده من الفكر الكوني للكلي السرمدي الذي رتب أسس ظهور الحياة، قال للماء انحسري فانحسرت في يومها الأول، وطالب الأرض بأن تتبذر وتنبت، إلى أن وصل في اليوم السادس إلى خلق الإنسان ومن ثم استراح، وقبل كل هذا فتق السماء عن الأرض بعد أن كانتا رتقاً، ومن ينظم تفكيره يستطيع أن يصعد من خلاله أصعب الدرجات ويفكك العقد ويخرج من عنق الزجاجة، مهما استطال عنقها، أين نحن الآن من التفكير بفكرنا ضمن مجتمعنا الذي يتشابه مع الإبرة في كومة القش؟ كيف سنخرجها أو نلتقطها؟ هل نحرق كومة القش أم نتعلم كيفية فرزها ونستفيد منها ونعود لحياكة المادي كي نستر به ما ظهر من عورات؟ فكرٌ تفكروا به.
د. نبيل طعمة