مشكلة الكبرى تكمن في الماضي، ضمن الأدلجة الموروثة وتشعباتها الدينية وانقسام الأمة بحكم الانتماءات الضيقة التي لم تقبل التطور ومواكبة العصر لتبقى تحيا على أفكار ماضوية تتراكم بدلاً من تقلصها، والأنكى من ذلك أنها تصر على التمسك بها ليظهر تحضرها ظاهرياً دون أي خرق للبنية الرئيسة المتكونة عليها، لذلك غدت لا تستطيع أن تفكر في مستقبلها ولا تقدر على بناء أجيالها، فالناظر إليها يجدها شعوباً مركبة تتصارع فيها أفكارها متأخرة وعاجزة، تسير عكس التيار، سهل اختراقها وتفكيكها واصطياد بوارقها، وهنا لا أدعو لخلق صراع مع الأديان أو العقائد أو الحد من حريتها، إنما أناشد أن تبقى ضمن أسوار المعابد، وللناس حرية الاختيار في الدخول إليها، مع التشدد بأن العمل والإنتاج والإبداع هو حق للمجتمعات والدول والأمم، وطالما أن شعوبنا تؤمن بالغيبي والتأكيد، ولا تتفهم معنى التريث وقدرة الشك على إيصالنا إلى اليقين، فستبقى في حالة تخلف فكري شديد يسوده النفاق والتكاذب وثقافة الموت كحل لكثير من المشكلات، بدلاً من الذهاب لحلها بالحوار وبالعلم والمعرفة، والإيمان بالخرافة والعرافة بدلاً من تعلم تحويل الهزائم إلى انتصارات والانكسار إلى جبر والفشل إلى نجاح، والتعلق بالماضي دون القيام بعملية تطوير واحدة، لم يتعلم الفكر أن الأديان سلوك وأخلاق وليس طقوساً وعادات موروثة قادمة من عمق التاريخ، لم ندرك حتى اللحظة تفسير المعجزات التي نُسجت في العقل القديم، والتي بُنيت كما تُبنى الحضارات، وبقاؤها في العقل ما هو إلا عملية تخدير مستمر للعقل بغاية وضعه تحت وصاية الماضي الذي اعتبره حالة اعتداء دائم على فكر الحاضر ومستقبله، إن لم يتم تجريده من سلبياته وآثامه الجمة.

العقل المتطور ينتقد ذاته وإيمانه وأخطاءه، يراجع كل ما فيه بين الفينة والفينة، كلما وقع نهض، وكلما تاه بحث، وكلما تناقص آمن بالحياة والوجود والموجود وذهب إلى ملئه بالأفضل من كل شيء، أجل يحق للعقل وأفكاره قول الحقيقة ومجابهتها والتأثر بثورات العلم والتكنولوجيا والعمارة والتمتع بفنون الجمال، لا يمكن أبداً أن تبني عقلاً متحضراً قابلاً للتطور دون فهمه وتمتعه بفنون الجمال والإيمان بضرورات حضوره، رغم أن الإيمان عُرض عرضاً ولم ُيفرض فرضاً، ومُنح الفكر قدرات تحليله واستيعاب نقيضه ومن ثم إبداء الآراء فيها، وأنا أجزم أن جزءاً كبيراً من أسباب التخلف هو أن يفكر المرء بعقل ميت أو أن يستمر بالتفكير بعقل الماضي، وأن لديه أو من خلاله يتم استلهام الحلول.

يجب أن يُبنى في العقل الحب، لأن الحب يبني ويزهر ويثمر، بينما يكون الخوف فيه أساس خراب كل شيء، الخوف من المجهول ينشئ العداوة مع العلم، والخوف من الهزيمة يؤدي إلى الوقوع فيها، والخوف من الموت يأخذك إليه بسرعة، الخوف مولّد فريد للجهل يؤسس مع مفسري الأديان للعودة إلى الماضي والانحسار فيه، تفكروا فيما أنحو إليه، يولد الإنسان صادقاً وبعقل سليم، ويغادر الحياة مملوءاً بالكذب والنفاق وعدم الاعتراف بما لديه من ألغاز، يزداد صمت العقول كلما نضجت وعملت وتعلمت وامتلكت الحكمة، ويتضاءل حاملوها كلما تقوقعت وانحصرت ضمن الزوايا الضيقة، فتراها تتحدث بلا توقف وبلا معنى ودون فائدة، كأن يحدثك أحدهم عما يحدث بعد الموت وكأنه مات عدة مرات، بينما يجيب العلماء بعدم معرفتهم ذلك لأنهم يعملون للحياة، لا يفكرون بالموت ولا بتبعاته ولا بالخوف أو التخويف منه، فالخوف لا يفعل شيئاً سوى الهزيمة، والحب يدفع للانتصار وفهم الحياة فينشأ بذلك التوازن الفكري الذي يجعل من المرء حراً، والحر يكون قادراً على التفكير وتحطيم الأصنام التي ورثها أو صنعها أو صُنعت له، ويستبدلها بصناعة الجمال أو التخصص بمفردة من مفرداته.

لذلك أجد أن إصلاح الخلل الثقافي والبنيوي الفكري يتم بتقديم التنظيم وضرورات وجوده في التفكير والحركة والمسير، وأن فرضه بالمنطق أو بقوة القانون يؤدي إلى إنهاء منظومات التخبط الفكري من خلال رسم السبل الواضحة التي تبني للإبداع صروحاً وللإنتاج حضوراً وللإيمان منطقاً إنسانياً وتولد القناعة والتخصص، وبها تُلغى نواصي الفوضى وتتجه الناس إلى عمليات البناء الفكري الذي يؤدي إلى البناء الأسري الناجح، ومنه تتكون أسباب بناء المجتمع، فالتخبط الفكري مثل الحلم اللاواقعي، فهل يمكن أن يحدث تزاوج بين السمكة والعصفور وكيف سيبنون عشهم وأين؟ أدع ذلك برسم تفكيرهم.

د. نبيل طعمة